قصة قصيرة
حبيبة في الذاكرة
نزل من سيّارة الاجرة يجرّ حقيبة صغيرة زرقاء.. باب دارهم الحديديّ الاسود لم يتغيّر منذ طبق وراءه، يوم طرده ابوه بعد ان رمى له جواز سفر وتذكرة طائرة مع بعض فرنكات فرنسية.. يومها دفعه في الطريق وقال له بصوته الاجش :
_لو عدت الى هنا قتلتك..
في الطّائرة كتب لها رسالة مطوّلة، طلب منها ان تنتظره وذكّرها بحبّهما منذ سنوات المدرسة الاولى.كل شيء فيها يعشقه..
تعوّد عليها منذ كان يمسك بيدها وهما في طريقهما الى المدرسة، كان يغار عليها من اطفال الحيّ، فلم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها.
لكنّها لم تردّ على رسائله. كتب وخطّ كتبا كاملة وتثبّت في العنوان. لكنّ رسائله لا تعود اليه وهي لا تردّ..
تاه في الشّوارع، لم يستوعب الامر . منذ اكثر من ثلاث وعشرين سنة لم يستطع ان يحبّ غيرها.مازالت يدها في بده وشعرها الكستنائي يتطاير خصلات تداعب وجهه ووجدانه ..
تذكّر امّه. واخواته..
الباب موصد.. تخيّل والده وراءه يحرسه. شعر برهبة وخوف. تذكّر يوم الرّحيل فكّر في العودة من حيث اتى، توقّف.. مشى خطوات هائما..
اقترب..مدّ يده، ضغط على زرّ صغير، فتحت الباب صبيّة جميلة شعرها الاسود يتهدّل على كتفيها، ظلّت تتمعن في وجهه برهة..
بقي يرتجف ولم يقو على فتح فمه.. كلمات وحروف تتدافع في حلقه.. يمنع بعضها بعضا خوفا من اب مسلّح او صوت اجشّ يصدمه . أطنان من الحنين اثقلت كاهله وخرّبت حياته.
سار في الرّواق يتبعها مرعوبا متوجّسا.
وجدها ممددة على فراش صغير وقربها قوارير وأدوية، هيكل عظمي... على وجهها تجاعيد وتجاويف خطّها الزّمن لتظلّ شاهدة على شقاء والم نازف.
اقترب منها لثم جبينها. جذب يدا متخشبة وضعها على صدره فاغرقته في ماض بعيد ظن انه نجا منه.. لكنّ بقية منه ما تزال هنا تتشبّث بالسّطح الى حين.
فتحت عينين مثقلتين بهموم واشجان . حركت شفتيها، فمها يشقشق س.. ليي.. م.. ؟ . مدّت يدها وامسكت بطرف معطفه تجذبه اليها حاول ان ينتزعه من بين اصابعها لكنّه لم يقدر...
سلخه عنه وتركه مكوّما على صدرها المختضّ..
جذب كرسيّاّ وجلس قربها يمسح على راسها، فجاة شعُر بحركة قربه، رفع راسه، فاذا هي امامه، هي نفسها بعينيها الجميلتين وجهها الملائكيّ. ، ضجّ عقله. تبلّد ذهنه. شعر بالكون كلّه يجثم عليه.. جُنّ جنونه.. ضغط بيديه على راسه... اراد ان يستفزّ عقله كي ينجده ويفهمه..
اتكات على الجدار تعضّ اصابعها وهي ترتجف... لم ينطق، لسانه تحجّر. الصّبيّة تقف بالباب وعلى وجهها علامات الحيرة والاستغراب.
السّكون خانق والصّمت موحش. زاغ بصره لايام وليال كانا يقضيانها معا.. هو يدقّ الجدار الفاصل بين غرفته وغرفتها في بيت الجيران فتردّ عليه بايقاع موسيقي اخّاذ. فليلة بسهران مع "انت عمري" وليلة اخرى "اهواك واتمنى لو انساك" ..
كانت اياما حلوة تلك التي سُمح لها فيها بالمراجعة معه ساعة اوساعتين . كان يزيّن غرفته ويعلّق صور عبد الحليم وهيام يونس... وتمرّ الساعتان بسرعة البرق فتغادر غرفته ولم تستوعب شيئا ممّا حاول تحليله معها وفكّ طلاسمه..
تحرّكت.تريد الخروج وقد شرقت بالدّمع، اعترض سبيلها، فكّر في ان يلامس شعرها الملفوف بحجاب اسود.. يريد شحنة منها، رفّة، خضّة تعيد له صوابه.. ماذا. ؟كيف ؟
سمع حشرجة و كحّا وعطاسا. انفلتت من بين ذراعيه واندفعت نحو غرفة جانبيّة تبعها مذهولا.. مدّ راسه واذا به هنا ممدّد على فراش المرض، خيوط تشدّه الى قارورة دواء عُلقت قربه..
تراجع ،صوته مازال يرجّ الباب الحديديّ (ان عدت قتلتك)..
تهالك على الارض مدمّرا محطّما.. بدا عقله يرتّب الاشياء..
كيف غفل عن حركات والده عندما كانت تاتي للمراجعة معه؟ كيف أهمل تلميحاته لها بانها كبرت واصبحت عروسا،، كان يطرب لسماع هذه الكلمة ويراها عروسا تزفّ اليه بثوبها الاببض...
لقد لبست الابيض وزُفت.
لاب قاس اهمل زوجته الاولى وطلقها، لتعيش في ركن من الدار ذليلة واغرى والد الحبيبة بالمال والجاه.
كاد عقله يتفحّم وهو يرى اطراف ثوبها تحوم حول شيخ مريض يحتضر..
فتح الباب واندفع يجرّ حقيبته الزّرقاء تحت زخّات المطر البارد وقد نسي المعطف مكدّسا على صدر امّه.
Habiba Meherzi
.
تعليقات
إرسال تعليق