شو السنديان للفروع

شوق السنديان للفروع....
توسّد الأبُ، وقد احدودبَ ظهرُه وارتسمت السنون على جبهته تجاعيدَ غائرةً، حجرةً من بقايا ما اقتلعَه من كرمه طوال سني عمره، تحت شجرة الجوز الوحيدة، فـ(لا شعوره) يقوده أصيل كلّ يومٍ، إلى ظلّ تلك الشجرة الوحيدة كوحدته، رغم مئات أشجار الزيتون على مرمى عينيه، يستمع في شروده إلى سيمفونية حفيفها لتعود به الذاكرة الخاوية إلا من لقطات متسلّلة من قاع عمره، لتختصر العقود في لحظات الغروب.
الشمس اصفرّت في الأصيل كوجهه الشاحب، تنحدرُ رويداً رويداً، وكأنّها تفارقُ مُكرهةً النهارَ الذي أطال دقائقَ وحدته وأحالها ساعاتٍ، عقاربُها مكبولة بحبال الشوق والحنين، بل كأنّها دمعة همتْ من مآقي الكون، كي يطويَ صفحة أخرى رتيبة من سفر انتظار الأب "لا عودة" الأبناء الذين شدّوا الرحال إلى الغرب البعيد، ما إن حلّت خفافيشُ وأشباحٌ في ليلةٍ مدلهمّة في أزقّة الوطن، فأمسى خاوياً من نبض الشباب وقلوبهم المترنّمة بالعشق، خامداً لافتقاده ألحان الطفولة.
والأمّ التي تسلّل إلى جسدها النحيل أوجاعُ القلب ضغطاً وحنيناً، وعجزت ركبتاها عن حمل ذلك الجسد المتقوقع حزناً وكمداً، أمسى البيتُ والحاكورةُ الصغيرة كلَّ عالمها، تمضي سويعاتِ النهار في طبخ ما يشتهيه زوجها العجوز الشارد مع الغروب، أو تزحف هوناً نحو الحاكورة تلملمُ أحجاراً طوراً، وتارة تقتلع حشائشَ وأشواكاً عنيدة أبت إلا أن تنبت كلّ عام، فعيناها الغائرتان إلى محجرَيها تدفعانها إلى الكدّ والكدح، ولم تعتادا رؤية أعشاب غريبة تمتصّ خيرات حاكورتها الصغيرة.
غالباً ما يقضي الأب والأمّ نهارهما الطويل في اختلاق مشاكل عبثيّة، يتشاجران، يصرخان، ثم سرعان ما يتصالحان، ربما للترويح عما يخالجهما من شوق دفين أو عجز جسديهما تجاه قسوة الحياة بعد اغتراب الأبناء.
منذ ستة عقود تقاسما الحياة ورغيف الخبز، وأنجبا سبعة أولاد، وذبحا لكلّ واحد خروفاً، وحرما نفسيهما ما تشتهيان، أدخلاهم في المدارس، وبتشجيعهما باتوا في الجامعة. فدخلوها، وتفوّقوا وتخرّجوا، والآن ها هم هنالك في الغربة، على بعد آلاف الأميال، حياتُهم كما يشتهون وأكثر، فتزوّجوا وأنجبوا.
أمّا الوطن فباتَ عندهم صورةً باهتةً على وسائل التواصل الاجتماعيّ، والحنينُ منشوراً من كلماتٍ جوفاء، والأبوان أمسيا مجرّد ذكرى لا حاضراً، وحين يفارقان الحياة كمداً وجوىً، يبدؤون بنشر صورهما تعبيراً عن ألم الفقد، وربما لتلقّي اللايكات والتعليقات، لأنّ الحياة الاجتماعيّة وصلة الرحم والعزاء، هناك في الغرب، تُختزل في لايكٍ بكبسة زرّ أو تعليق من كلمتي "الله يرحمه"، وينتهي الحدادُ سريعاً ويعودون، ولكن ليس إلى الوطن، بل إلى نشر صورهم البهيّة أمام الشواطئ الغربيّة ومعالمها، أو مدّ موائدهم العامرة، الزاخرة بمختلف أفانين الشراب وصنوف الطعام، ومذيّلة بعبارةٍ لازمةٍ دائماً "تفضّلوا... كُلُوا معنا".
فالأبوان ليسا ذكرى، بل هما نسغ الحياة، والوطن ليس صورةً أو لايكاً، بل هو روح تسري في الشرايين، وحبّ الوطن ليس منشوراً باهتاً على السوشيال ميديا.... يا عزيزي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سمفونية غرام

أحقا شبت يأحلى الشباب

خواطر أدبية. . . خيوط الشمس